في مصر القديمة، لعبت القرود والبابون دورًا مهمًا وغامضًا في الدين ومجالات أخرى. ويبدو هذا غريبًا إلى حد ما، إذ لا توجد قرود أو بابونات أصلية في مصر، ولم توجد منذ زمن بعيد يعود إلى العصور القديمة. ومع ذلك، فمن الواضح أن المصريين ما قبل التاريخ في الألفية الرابعة قبل الميلاد كانوا على دراية بالقرود، بما في ذلك البابون المخيف والخطير وقرد السرو الطويل الأفريقي. ومنذ ذلك الحين، شغلت القرود والبابون مكانة دائمة في الديانة المصرية القديمة كأحد الأشكال الحيوانية التي قد يتجلى فيها الإله. ويُحتمل أن كلمة "بابون" نفسها مشتقة من المصرية القديمة، وربما من جذر لغوي يعكس سلوكياته الجنسية.
![]() |
مقبرة توت عنخ آمون، الحائط الغربي |
القرود في مصر: الأصل والبيئة
يبدو أن أنواعًا مختلفة من القرود كانت تعيش في أرض مصر في الأزمنة المبكرة جدًا. فقد شهدت عصور ما قبل التاريخ منطقة أكثر رطوبة وذات طبيعة خضراء أكثر بكثير من اليوم، وكانت عملية تحولها إلى صحراء تغطيها الرمال باستثناء شريط النيل الخصيب وبعض الواحات المتفرقة، مستمرة حتى عصر الدولة القديمة. ومن المحتمل أنه حتى خلال عصر الدولة القديمة كانت القرود والبابونات لا تزال تعيش في الجزء الجنوبي من صعيد مصر، رغم أن نطاق انتشارها اليوم يقتصر على جنوب شبه الجزيرة العربية (الهامادرياس)، وإثيوبيا (القرود)، وسهول السودان (البابون). ومع أن لوحات المقابر خلال الدولة الوسطى تصور قرودًا، فإن من المشكوك فيه أن تكون هناك تجمعات محلية لهذه الحيوانات في ذلك العصر.استيراد وتربية القرود في الدولة الحديثة والعصر المتأخر
وبحلول عصر الدولة الحديثة، أصبحت القرود تُستورد إلى مصر، غالبًا من النوبة أو من أرض بونت. ويبدو أنها كانت تُربى لأغراض متعددة، وربما حتى كحيوانات أليفة، لكنها أيضًا كانت تُحتفظ بها في مجموعات داخل المعابد، مثلها مثل غيرها من الحيوانات المرتبطة بالآلهة. ويُحتمل أن هذه المجموعات كانت تشهد ولادات، رغم أن نجاح تربية هذه الحيوانات كان محدودًا على الأرجح. وفي العصر المتأخر، نجد حيوانات مدفونة في مقابر الحيوانات، بما في ذلك بابون الهامادرياس المقدس (Papio hamadryas)، وبابون السافانا (Papio cynocephalus anubis)، والقرد الأخضر (Cercopithecus aethiops)، والقرد الأحمر (Cercopithecus pata)، وقرد البربري (Macaca sylvanus).الرعاية والظروف المعيشية للقرود المقدسة
ورغم أن كثيرًا من هذه الحيوانات كانت تُعتبر أوعية يمكن أن تسكنها الآلهة، وبالتالي كانت تحظى بعناية خاصة، إلا أن الأبحاث في مقابر الحيوانات مثل سقارة وتونة الجبل أظهرت أن متوسط عمرها في مصر كان قصيرًا جدًا. فمن بين نحو مئتي عينة تمت دراستها، نادرًا ما عاش أي منها لأكثر من ست إلى عشر سنوات. وأدى سوء ظروف المعيشة إلى سوء تغذية، كما أن نقص الحركة والتعرض للشمس أدى إلى الكساح وأمراض العظام التنكسية وربما السل. فرغم المعرفة المبهرة التي امتلكها المصريون القدماء، إلا أنهم فيما يبدو لم يتمكنوا من توفير الرعاية الملائمة لتلك الحيوانات.القرود كحيوانات أليفة في منازل الطبقة العليا
وبعيدًا عن الاستخدامات الدينية، من المؤكد أن القرود كانت تُربى كحيوانات أليفة في بيوت الطبقة العليا، رغم أنه من غير المحتمل أن تُترك لتجوب المنازل بحرية، رغم تصوير القردة الخضراء، إلى جانب القطط والإوز والبط، تحت كرسي الزوجة في إحدى المقابر. والقرود الخضراء تحديدًا تُعد حيوانات خطيرة، لا بد وأنها كانت تُربط جيدًا، كما تُظهرها عادة مناظر تقديم الجزية.تجارة وتصدير القرود من مصر: وقد صُدّرت القرود والبابونات لاحقًا من مصر أو على الأقل عُبّرت خلالها إلى أماكن مختلفة مثل بلاط الآشوريين وسوريا. ويُذكر أن بعض مربّي القرود كانوا يعيشون في مدينة نينوى الآشورية.
القرود في الفن المصري: الطرافة أم الرمزية الدينية؟
أما الغموض الذي يحيط بالقرد في الفن المصري القديم فيرتبط بفكرة التعايش الرمزي بين الإنسان والقرد. فمنذ الدولة القديمة، نجد مناظر تصور القرود وهي تشارك في أنشطة بشرية، بعضها غريب أو حتى مستحيل. وتشمل هذه المشاهد القرود وهي ترقص وتعزف الموسيقى، وتشارك في جني التين أو تسلق أشجار الدوم وإسقاط ثمارها. وتظهر أيضًا في معاصر النبيذ وصناعة الجعة، وحتى وهي تساعد في زينة النساء صباحًا. بل وتُرى في مشاهد لبناء السفن أو الإبحار بها. وخلال الدولة الحديثة، تظهر القرود بكثرة في الأوستراكا والبرديات في أوضاع بشرية مرحة. إلا أن بعض الباحثين، مثل ديتر كيسلر، يعتقدون أنه لم تكن هناك قرود مدربة في مصر القديمة، وأن هذه المشاهد لها وظيفة "دينية لاهوتية"، رغم أن بعضها، خاصة في الدولة الحديثة، ربما احتوى على جانب فكاهي أيضًا.البابون كرمز ديني وأسلاف مقدسة
ورغم أننا لا نفهم تمامًا رمزية القرد والبابون في الدين المصري، فإن من المؤكد أنهما اعتُبرا حيوانات طقسية منذ فجر التاريخ المصري. وربما ساهم تشابه البابون في بعض صفاته مع الإنسان في ربطه المبكر بالحاكم المتوفى. ومن المحتمل أن البابونات المُحنطة كانت تمثل الأسلاف الملوك لقبائل ما قبل الأسرات. وخلال مراسم تجديد العالم المادي وشخص الحاكم، كان يتم تأليه الأسلاف في هيئة بابونات ويتلقون القرابين. وربما تطورت عادة نصب الأكشاك الخشبية التي تحتوي على بابونات الأسلاف خلال عيد "السيد" لتجديد شباب الملك من هذا التقليد. ويُحتمل أن تمثالًا لبابون يمثل الملك نارمر، أُقيم بواسطة أحد المسؤولين، يُلمح إلى تحول الملك إلى بابون كجزء من طقس التجديد. وقد ارتبط الملك بإله بابون يُعرف بـ"العظيم الأبيض"، وربما استمد هذا اللقب من عرف البابون الرمادي الفضي.الجانب الشرير والرمزي للبابون
لكن القرود لم تكن دائمًا مخلوقات خيرة. فقد وُثقت طقوس تشمل القرود منذ زمن مبكر، وتحدثت نصوص دينية لاحقة عن خطر القرود "التي تقطع الرؤوس". بل إن شكل البابون بذيله المرفوع يُستخدم كرمز كتابي يعني "غاضب". وقد جعلته وحشيته كائنًا خطيرًا ووسيطًا طاردًا للشر، بصفته كائنًا بدائيًا في مشهد أسطوري. فعلى سبيل المثال، كانت هناك أربعة مخلوقات شبيهة بالبابون تحرس "بحيرة النار" الأسطورية في العالم السفلي المصري.البابون في الميثولوجيا واللاهوت المصري
لعبت القرود والبابونات دورًا جوهريًا في الكوزمولوجيا المصرية. فقد صُوّر عدد من الآلهة في هيئتها، وكان بعض أقدم الآلهة يُصوّر أحيانًا برأس بابون. وكان الإله حابي، أحد أبناء حورس الأربعة المرتبطين بالتحنيط، يُصوّر برأس بابون. أما القرد الأخضر، فحين يُصوَّر ممسكًا بقوس وسهام، فيُمثل تجليًا للإله البدئي الخفي، آتوم.الإله تحوت والبابون: الحكمة والقمر
وأصبح البابون أيضًا تجليًا لإله الشمس رع، وكذلك لإله القمر تحوت-خونسو. وقد لاحظ المصريون القدامى أن البابون ينبح عند شروق الشمس، مما أفرز موضوعًا مفضلًا في النقوش والتماثيل، حيث يظهر البابون وهو يعبد الشمس رافعًا يديه. وتظهر شياطين القردة بصحبة إله الشمس في نصوص العالم الآخر الملكية، حيث يرافق الدور الإيجابي للبابون جانب خطير، إذ يمكن أن يتجسد أعداء الآلهة، مثل عپوف وست، في هيئته.
وقد ارتبطت الفحولة والقدرة الجنسية بالإله البابون "ببون"، الذي كان مرتبطًا بإله بابون آخر يُدعى "بابا" أو "بابي"، والذي كان يتميز بآذان حمراء ومؤخرة زرقاء وملامح تشبه ست.
وبالطبع، أصبح البابون الجاثم رمزًا مرئيًا مبكرًا وحاميًا لإله الحكمة والكتّاب، تحوت. وقد أصبح بابون تحوت، ويُدعى أيضًا "إسديس"، مساعدًا في قاعة المحاكمة في العالم الآخر.
كان تحوت أيضًا إلهًا للقمر، وقد أدى ربطه بالبابون إلى ارتباط الأخير بإله القمر خونسو. وفي معبد خونسو بالأقصر، كانت تماثيل لخونسو في هيئة بابون تزين مدخل المعبد. وفي العصر المتأخر، نعرف من أحد مقابر البابونات في سقارة أن الإله "تحوت-خونسو" أصبح إلهًا عرافيًا ليليًا مهمًا، تُقدَّم له العرائض المكتوبة بواسطة الكهنة. وفي هذا الشكل، دُعي خلال العصر اليوناني باسم "ميتاسيثميس"، أي "الأذن السامعة".
العبادة والتنظيم الكهنوتي للبابون في العصر المتأخر
وبحلول العصر المتأخر، حُمِل أفراد على ألقاب مثل "كاهن البابون الحي" أو "كاهن أوزير-البابون"، حيث خدموا الآلهة التي كانت تمثل بتماثيل البابون، واعتنوا بقرود المعابد المقدسة. وكانت هذه المجموعات المقدسة من البابونات تعمل في تجمعات صغيرة. ومن أبرز الأمثلة مجموعة معبد بتاح في ممفيس، حيث تؤكد نصوص بطلمية من مقبرة الحيوانات في سقارة أن مستعمرة من هذه الحيوانات كانت تُربى "تحت شجرة المورينغا الخاصة به" في الوادي. وربما كان عددها في أي وقت حوالي اثني عشر بابونًا، يُختار أحدها ليكون الناطق بالعرافة ويُلقب بـ"وجه البابون قد تكلّم".دفن القرود والبابونات في مقابر مقدسة
وعلى عكس البابونات، لم يكن هناك عبادة شخصية للقرود في مصر. فقد كانت تُؤله فقط بعد وفاتها، وكان الاحتفاظ بها قبل ذلك محصورًا في الطقوس داخل المعابد. وربما بدأت عادة دفن هذه القرود طقسيًا في عهد أمنحتب الثالث في وادي الملوك بالأقصر. ويُحتمل أن تكون استُخدمت في عيد "السيد" لهذا الملك.التوابيت والطقوس الجنائزية للبابونات
ولم يُدفن البابونات المقدسة في مقبرة طيور الإبيس قرب تونة الجبل إلا خلال الأسرة السادسة والعشرين. ولكن في العصر البطلمي، تظهر مومياوات القرود إلى جانب الإبيس والصقور في معظم مقابر الحيوانات. وتُعد أفضل المدافن لتلك القرود هي المعروفة في مقابر البابونات بممفيس في سقارة، وكذلك في مقابر الحيوانات بتونة الجبل، وأبيدوس، ووادي القرود بوادي جبانة الجيرود في جنوب طيبة. وتعود هذه المدافن في الغالب إلى العصرين اليوناني المتأخر والروماني المبكر.
في البداية، كانت تُدفن البابونات في توابيت خشبية بسيطة. ومنذ الأسرة السادسة والعشرين، أصبحت تُحنط وتُدفن في توابيت خشبية. ومع بداية العصر اليوناني تحت حكم أول حاكمين بطلميين، أصبحت تُدفن في غرف خاصة وتُوضع في توابيت حجرية من الحجر الجيري. وفي تلك الفترة، كانت تُدفن أحيانًا في غرف منحوتة في الصخر بتونة الجبل، مزوّدة بتماثيل لتحوت في هيئة بابون وإبيس، ومزينة بمشاهد طقسية. وكانت أمام الغرف مناطق شعائرية مزودة بدرج من أربع درجات، وموائد قرابين، وألواح للسكب. وقد بيعت تلك المناطق الطقسية لعائلات كهنوتية، كانت تعيش غالبًا من دخل الزائرين وقرابين الدولة في الأعياد الدينية. وبعد حكم بطليموس الأول والثاني، عادت عادة استخدام التوابيت الخشبية.
أسماء القرود المقدسة وتسجيل أنسابها
وقد استُقي كثير من معلوماتنا حول القرود والبابونات في مصر القديمة من هذه المدافن. فعلى سبيل المثال، نعرف أن بابونات المعابد كانت تحمل أسماء فردية، لكن لا يوجد دليل على ذلك بالنسبة للقرود الخضراء. بل إن بابونات المعابد المقدسة خلال العصر البطلمي التي دُفنت في سقارة نُقشت أنسابها على توابيتها، غالبًا مع تواريخ ميلادها ووفاتها. ولم يكن هذا شائعًا دائمًا، إذ ظهر أول ذكر لبابون مؤلَّه باسم شخصي في تونة الجبل باسم "أوزير-البابون، المبرر"، دون اسم محدد. وظهر أول اسم شخصي لبابون على قطعة من الكتان من الأسرة السادسة والعشرين أو السابعة والعشرين. وفي العصر البطلمي، كانت أسماء البابونات تُعرف من ألواح الأبواب الزائفة في محاريب توابيتهم، ومن المشاهد الطقسية في غرف العبادة، ومن البرديات التي تذكر مواقع العبادة الخاصة بكل بابون. وكانت بابونات هرموبوليس تحمل أسماء مثل: "جاء تحوت"، "تحوت هو من وهبه"، "لقد وُجد تحوت"، أو "جاء القوي الملامح".القرود في الزخرفة والفنون التطبيقية
كما يجدر بالذكر أن القرود استُخدمت كثيرًا كعناصر زخرفية في الأشياء ثلاثية الأبعاد، مثل أدوات الزينة والألعاب. كما ظهرت على الجعارين وعلى هيئة تماثيل صغيرة. ومنذ الدولة الحديثة، انتشرت تماثيل المعابد للبابونات. وغالبًا ما تظهر وهي جاثمة على قاعدة مرتفعة، يُصعد إليها بدرج. وفي هرموبوليس بصعيد مصر، عُثر على بابونات ضخمة من الكوارتزيت تعود لعهد أمنحتب الثالث، وربما كانت مصطفة حول بحيرة مقدسة. ووقفت تماثيل كبيرة أخرى للقرود عند مداخل مقابر الحيوانات. وفي معبد بابليون بمصر القديمة، وُجد تمثال لقرد أخضر في فناء المعبد باعتباره إله المدينة.وهكذا، فمنذ بداية التاريخ المصري وحتى مطلع العصر المسيحي، احتفظت البابونات بدور ثابت ومهم في الديانة المصرية القديمة، حيث جسّدت طيفًا واسعًا من الأدوار، من الشيطان إلى الحامي، وارتبطت بعدد من أعظم الآلهة المصرية وكذلك بالملك، رغم أن وجودها في مصر خلال معظم هذه الفترة كان يعتمد على الاستيراد من الخارج.
المصادر:
Bleeker, C. J. The Egyptian Gods: A Handbook. E.J. Brill, 1973
Kessler, D. "The Sacred Animals of Tuna el-Gebel and Their Cults." Studien zur Altägyptischen Kultur, vol. 18, 1991
Baines, J., & Málek, J. Cultural Atlas of Ancient Egypt. Facts on File, 1980
Wilkinson, R.H. The Complete Gods and Goddesses of Ancient Egypt. Thames & Hudson, 2003
Egyptian Ministry of Antiquities Publications