شامبوليـــون الأب الروحى لعلم المصريات
بقلم / دكتور محمد رأفت عباس
شامبوليـــون الأب الروحى لعلم المصريات فى الثالث والعشرين من ديسمبر من العام 1790 م ، ولد عالم المصريات الفرنسى الشهير" جان فرانسوا شامبوليون " الملقب بالأب الروحى لعلم المصريات فى فيجاس بفرنسا ، نشأ شامبوليون شغوفا بمصر القديمة وحضارتها.
شامبوليـــون |
منذ أن كان يصطحب ابن خاله القائد شامبوليون الذى كان واحدا من ضباط الجيش الفرنسى فى الحملة الفرنسية الشهيرة على مصر ، وقد أطلعه على نسخة مرسومة لحجر رشيد الذى عثر عليه عام 1799م من قبل جنود الحملة الفرنسية أثناء قيامهم بحفر خندق حول قلعة سان جوليان بالقرب من رشيد
أسرار الحضارة المصرية القديمة
هكذا ولد الشغف وحب استكشاف أسرار الحضارة المصرية القديمة فى عقل شامبوليون الصغير ، ومن ثم فقد بدأ فى اعداد نفسه علميا وفكريا من أجل محاولة ترجمة نصوص حجر رشيد منذ وقت مبكر من حياته ، فبدأ فى دراسة اللغات العربية والعبرية والكلدانية والسريانية والفارسية والكوشية ، وكان يتابع بشغف أبحاث سابقيه الذين توقفوا بسبب عدم التوصل إلى حل .
ولما كان العالم الأب كيرشر قد توصل من قبل فى منتصف القرن السابع عشر إلى أن آثار اللغة المصرية القديمة لاتزال تعيش فى القبطية ، وهى اللهجة التى كان يتحدث بها الرهبان فى مصر حتى القرن التاسع عشر الميلادى ، لجأ شامبوليون إلى تعلم القبطية ، وعمل على الاهتمام بالدراسات القبطية من أجل التمكن من فك رموز حجر رشيد .
وبعد دراسات مضنية قضاها العالم الشاب شامبوليون ، تمكن من الوصول إلى حقيقية هامة تتمثل فى أن النص الهيروغليفى الموجود فى حجر رشيد يحتوى - على الرغم من تشويهه - على علامات أكثر من النص اليونانى ، لذلك كان لابد من تفسير هذه الملاحظة ، وتوصل شامبوليون إلى أن السبب فى كثرة العلامات يرجع إلى أن اللغة المصرية القديمة لغة رمزية وصوتية فى آن واحد ، أى أنها تحتوى على علامات تقرأ وأخرى لا تقرأ وانما هى موجودة فى النص لتحديد معنى الكلمة .
لذلك أخذ شامبوليون فى فحص النص كله وأخذ يبحث عن العلامات التى يمكن قراءتها . وقام بقراءة كل اسماء الملوك البطالمة التى كتبت بحروف هيروغليفية وديموطيقية ، وبعد ذلك بدأ يهتم بالكلمات الأخرى فى النص . وبمساعدة النص اليونانى أراد أن يعرف النطق بالقبطية ، وكيفية نطق هذه الكلمات الهيروغليفية ، وأكمل الفراغات الموجودة فى النص ، وتعرف على العديد من القيم الصوتية لعدة كلمات .
العلامات الهيروغليفية
وحاول مقارنة العلامات الديموطيقية بما هو موجود من علامات هيروغليفية داخل الأشكال البيضاوية أى الخراطيش الملكية ، وتوصل إلى معرفة قراءة الخرطوش الهيروغليفى هجائيا . وقد استطاع أن يتأكد من صحة استنتاجه عندما اعتمد على نقوش مسلة سجلت بالهيروغليفية واليونانية لتكريم بطلميوس وشخصيتين تحملان اسم كليوباترا . وقد نقلت هذه المسلة وقاعدتها إلى انجلتــرا فى عـام 1819م ، وكـانـت مقامـة فى حديقـة مستـر بانكـس بحى كنـج ستـون فى دورست .
وأعدت نسخة للنصين الهيروغليفى واليونانى عام 1821م ، وحصل شامبوليون على هذه النسخة فى عام 1822م ، وقد تمكن من ملاحظة أن خرطوش بطلميوس يصاحبه خرطوش كليوباترا ، وبمقارنتهما لاحظ اشتراكهما فى الحروف الهجائية ، وقد تمكن شامبوليون بواسطة هذين الخرطوشين من معرفة ثلاثة عشر حرفا من حروف الهجاء لها اثنا عشر صوتا .
ثم بدأ بعد ذلك اعتمادا على ما توصل إليه من نتائج معرفة الاسماء الهيروغليفية لكل من الإسكندر وبرينيس وتيبروس ودوميسيان وتراجان ، إلى جانب بعض ألقاب الأباطرة الرومان .. ثم حصل شامبوليون فى 14 سبتمبر 1822م من مهندس على نسخ من نقوش معابد مصرية كان لها أثرها فى تبديد شكوكه نحو حل رموز اللغة المصرية القديمة .
وفى أعقاب هذا نجح شامبوليون فى الوصول تدريجيا إلى معرفة الحروف الهجائية والأبجدية ، ونجح فى فصل الكلمات فى الجمل ، وفصل الجمل عن بعضها فى النص .. واعتمادا على معرفته للهجة القبطية لم ينجح فقط فى قراءة اسم الملك الشهير رمسيس الثانى على أثر آخر استعان به ، ولكنه فهم معناه أيضا " رع ( إله الشمس ) ولده " ، وكذلك عرف خرطوش اسم الملك تحوتمس ومعناه .
فك رموز اللغة المصرية القديمة
وهكذا فى خريف عام 1822م ، شهدت البشرية ميلاد علم المصريات ونشأته فى التاريخ الحديث على يد شامبوليون بعد نجاحه فى محاولاته الأولى فى الوصول إلى فهم قواعد اللغة المصرية القديمة ، وقد قام فى السابع والعشرين من سبتمبر من هذا العام بإرسال خطابه الشهير إلى مسيو داسيه رئيس أكاديمية النقوش والآداب بباريس ، الذى يخبره فيه بنتائج أبحاثه فى الكشف عن أسرار اللغة المصرية القديمة . ولم يذكر فى هذا الخطاب أية تفاصيل ، وقد فضل أن ينشرها بعد ذلك عام 1824م تحت عنوان : " موجز النظام الهيروغليفى " Précis du systeme hieroglyphique .
أخذ شامبوليون يهتم بعد ذلك بالنصوص المصرية القديمة الأخرى التى وجدها أمامه فى ذلك الوقت فى متحف اللوفر وغيره ، وقام فى عام 1824م بزيارة مجموعة الاثار المصرية فى متحف تورين بإيطاليا ، حيث عمل على نسخ معظـم النصـوص المصرية هناك ، الأمر الذى زاد من معرفته بكلمات وقواعد اللغة المصرية القديمة ، وفى عام 1826م عين شامبوليون أمينا لقسم الآثار المصرية بمتحف اللوفر بباريس ، وفيما بين عامى 1828 – 1830م قام بأول زيارة له لمصر على رأس بعثة علمية مع صديقه الايطالى روزلينى ، وقد دهش عندما اكتشف اختفاء بعض الآثار بسبب تجارة القنصل دروفتى ، وأقنع محمد على باشا بإيقاف ذلك.
وبعد هذه الرحلة الهامة قام بكتابة كتابه الشهير " آثار مصر والنوبة " Monuments de ľEgypte et de la Nubie فى أربعة أجزاء ( أو مجلدات كبيرة ) ، وصف فيها الآثار التى رآها وأمر برسم بعضها ، ودون كذلك بعض الملاحظات التفصيلية فى مؤلف آخر بعنوان : " ملاحظات تفصيلية " Notices Descriptives ، وقام أيضا بكتابة بعض الخطابات بعنوان : " خطابات كتبت من مصر والنوبة " Lettres écrites ďEgypte et de Nubie ، حيث دون فيها انطباعاته اليومية أمام الآثار المصرية ، وهى عبارة عن ملاحظات لها أهميتها.
وسجل أيضا قراءاته للأسماء والنصوص التاريخية ، ولم تظهر هذه المؤلفات إلا بعد وفاته مثل كتاب قواعد اللغة ، وكذلك القاموس الذى كان قد قام بإعداده من فترة عن كلمات اللهجة القبطية ، وعند رجوعه إلى فرنسا عين عضوا بأكاديمية النقوش والآداب عام 1830م ، ثم أستاذا بالكوليج دى فرانس عام 1831م .
وفى الرابع من مارس من العام 1832م توفى شامبوليون متأثرا بجهوده ونشاطه العلمى المرهق ، تاركا كتبه وقاموسه وملاحظاته وخطاباته كدلائل على مدى تفانيه فى عمله وإخلاصه فيه ، وهكذا كان لشامبوليون عظيم الفضل فى الكشف عن أسرار اللغة المصرية القديمة وبالتالى عن أسرار تاريخ وحضارة مصر القديمة ، فمنذ أن أغلقت المعابد المصرية أبوابها فى القرن الرابع الميلادى ، لم يعد لدينا من له القدرة على قراءة الهيروغليفية أو غيرها من خطوط اللغة المصرية القديمة .
ونتيجة لذلك فكل ما كان يعتبر وثيقة مصرية قديمة كان أشبه بالصفحة الغامضة التى لا يمكن قراءتها أو فهمها .. حتى جاء العام 1822م ، ونجح شامبوليون فى الكشف عن أسرار اللغة المصرية القديمة وظهر علم المصريات إلى النور ، ولولا هذا الجهد الجهيد كانت ستقتصر معارفنا عن تاريخ وحضارة مصر القديمة بما كتبه الرحالة والكتاب والفلاسفة اليونان والرومان الذين زاروا مصر فيما بين القرن السادس قبل الميلاد والثانى بعد الميلاد !
المراجع
J. Lacouture, Champollion: une vie de lumières, Paris (1988).