📁 آخر الأخبار

المسكــوت عنه حول ذكـــر أنبيـــاء الله فى الآثـــار المصريـــة

منذ عدة سنوات كان مبدأى الراسخ دائما فى الحديث إلى السادة القراء والمتابعين هو عدم اتباع ثقافة التريند "الرخيصة" والرائجة - للأسف الشديد - فى مجتمعنا على مواقع التواصل الاجتماعى، واحترام عقلية السادة القراء والمتابعين بما ينفعهم ويفيدهم – فكريا وثقافيا ووطنيا – فى مختلف قضايا التاريخ والحضارة المصرية القديمة.

ولأننى أؤمن تماما بوجوب علمانية الفكر فى التعامل مع علم المصريات، وعدم تحميل النص الدينى فى القرآن الكريم فوق معناه بغرض الشهرة وإثارة الجدل، والذى أرى فيه إساءة فى التعامل مع كلام المولى عز وجل، كنت أتحاشى دائما خلط الفكر الدينى والعقائدى بتاريخ وحضارة مصر القديمة، لأننى أؤمن تمام الإيمان أن القرآن الكريم قد جاء ككتاب للهداية والإرشاد وليس ككتاب تاريخ، وأن ما ذكر عن أخبار الأمم السابقة كان فقط من أجل العظة والاعتبار وليس لإقرار أحداث تاريخية معينة، ذلك لأننى – كمسلم صادق الإيمان – أؤمن تماما بصدق كتاب الله الحكيم سواء وجدت الأدلة الأثرية التى تصدق أحداثه أو انعدم وجودها !!  

ومنذ أيام قليلة أثير فى وسائل الإعلام الحديث حول ذكر أنبياء الله عز وجل فى الآثار المصرية، الأمر الذى أثار موجة من الجدل والنقاش العبثى هنا وهناك، وقد وجد الكثيرون من هواة الشهرة والظهور ضالتهم فى هذا الأمر، ومما يؤسف له أننى لم أجد مقالا واحدا يسعى خلف الحقيقة التاريخية والصدق والنقاش العلمى الموضوعى كعادة مجتمعنا فى السنوات الأخيرة .. هنا رأيت أنه يجب أن أدلو بدلوى فى تلك المسألة احتراما لعقلية القراء والمتابعين على صفحتى المتواضعة وهم كثر، ويثقون ثقة تامة فى رأيى ورؤيتى .. 

وبالعودة إلى ذلك السؤال الصعب حول تلك المسألة .. هل هناك ذكر لأنبياء الله عز وجل فى الآثار المصرية ؟! أقول بكل ثقة ..نعم، هناك ذكر لأنبياء الله عز وجل فى الآثار المصرية، ولكنه بشكل غير مباشر .. كيف هذا ؟!

هل هناك ذكر لأنبياء الله عز وجل فى الآثار المصرية ؟

فى البداية يجب أن نتفق أن الاثار المصرية فى طبيعتها وفى غالبيتها قد كتبت بأوامر ملوك مصر القديمة وبوحى منهم لتتفق مع وجهة نظرهم ورؤيتهم للأحداث التاريخية المختلفة.

المسكــوت عنه حول ذكـــر أنبيـــاء الله فى الآثـــار المصريـــة
الملك شيشنق الأول

ومن ثم فإنه من الصعب للغاية تواجد مادة نصية أو أثرية مصرية تتحدث عن أحد الأنبياء الذين قد اصطدموا مع ملوك مصر فى دعوتهم كنبى الله موسى عليه السلام ( على سبيل المثال )، لأنه من المستحيل على الوثائق الحكومية فى مصر القديمة أن تسجل مثل هذا الأمر نظرا لعقيدة الملكية الإلهية فى الحضارة المصرية القديمة التى كانت ترى فى قدسية الملك تجسيدا حقيقيا للدولة ولسياستها ولهيبتها، فكان من المستحيل أن تذكر الآثار المصرية على سبيل المثال غرق أحد الملوك ونجاح عبيدهم العبرانيين فى الهروب من بطش الفرعون الحاكم .. ولا يمنع هذا من احتمالية وقوع اكتشاف أثرى مستقبلى لوثيقة قد دونها واحد من أبناء الشعب المصرى بمصداقية وحيادية ، تسجل لنا رؤية غير رسمية أو حكومية للأحداث التاريخية المرتبطة بتواجد الأنبياء فى مصر القديمة !!ِ

أما عن الدليل الأثرى الملموس عن ذكر الآثار المصرية لأنبياء الله عز وجل ، فدعونا نقلب صفحات التاريخ إلى عهد الملك المصرى " شيشنق الأول " أعظم ملوك الأسرة الثانية والعشرين .. 

الدليل الأثرى الملموس عن ذكر الآثار المصرية لأنبياء الله

فى عهد الملك شيشنق الأول مؤسس الأسرة الثانية والعشرين ( 945 – 924 ق.م ) ، تطلعت السياسة الخارجية المصرية إلى فلسطين وما وراءها ، وكان أمرا حتميا أن تصطدم مصر بمملكة يهوذا فى أرض فلسطين، وهى مملكة بائدة للشعب الإسرائيلى القديم "بنى إسرائيل" قد ظهرت في جنوب بلاد الشام "فلسطين" خلال العصر الحديدي، وقد اتخذت من أورشليم "القدس" عاصمة لها، وتعود تسميتها إلى "يهوذا بن يعقوب" الذى تنحدر منه غالبية القبائل الإسرائيلية، وفى السنة الخامسة من عهد الملك اليهودى "رحبعام"، قام الملك المصرى " شيشنق الأول " بغزو فلسطين وفرض هيمنته السياسية على مملكة يهوذا .. وتذكر التوراة أن شيشنق ملك مصر صعد إلى أورشليم وأخذ خزائن بيت الملك وكل شىء، ويرجح بعض المؤرخين العام 931 ق.م تاريخا لهذه الحملة، وفى الحقيقة أن هدف الحملة غامض تماما، فربما كانت محاولة لاحياء الأمجاد السياسية والحربية المصرية القديمة فى بلاد الشام على غرارعهد الإمبراطورية المصرية عصر الدولة الحديثة، أو أنها كانت خطة سياسية مصرية لتدعيم مركز "يربعام" الجالس على عرش دويلة إسرائيل الشمالية المتنافسة مع مملكة يهوذا فى أرض فلسطين والتى كانت متقاربة مع مصر فى ذلك الوقت.

المسكــوت عنه حول ذكـــر أنبيـــاء الله فى الآثـــار المصريـــة
منظر الاسيويين من معبد الكرنك

وعندما عاد "شيشنق الأول" منتصرا إلى مصر، سجل بالنقوش قصة انتصاره على الجدران الجنوبية الخارجية لبهو الأعمدة الكبيرفى معبد الكرنك بطيبة (الأقصر)، وهى التى يطلق عليها اسم "البوابة البوبسطية " ( نسبة إلى عاصمة الأسرة الثانية والعشرين فى مدينة بوبسطة بشرق الدلتا " تل بسطة " ) .. ويظهر فى مناظر ونقوش الملك " شيشنق " المسجلة بالكرنك قائمة بمائة وست وخمسين مدينة وموقعا جغرافيا فى بلاد كنعان ( فلسطين )، والتى تقع على الحدود الجنوبية لأرض يهوذا وشمال الجليل ، ومن بينها نجد أسماء عديدة معروفة فى الكتاب المقدس ( التوراة )، من بين هذه الأسماء أو المواقع الجغرافية ( الموقعان رقمى 71 و 72 ) الاسم :-

 (PA-Hw-q-rw A-bA-rA-m) أى " حقل إبراهيم " The Field of Abram .. 

لم يستطع العلماء التعرف على هذا الموقع فى أرض فلسطين إلى وقتنا الراهن ، ولكن يعتقد الغالبية العظمى من علماء المصريات وعلماء علم الاثار التوراتى Biblical Archaeology - بما لا يدع مجالا للشك - أن هذا الموقع هو أول ذكر تاريخى لسيدنا " إبراهيم " عليه السلام فى المصادر المصرية ، وقد تمت تسميته نظرا للنفوذ السياسى الذى أصبح يشكله الإسرائيليون الأوائل فى أرض فلسطين فى ذلك الوقت خلال العصر الحديدى !!

إذن .. أليس تدوين اسم هذا الموقع الجغرافى فى أرض فلسطين خلال ما يسمى بالعصر الحديدى والتابع لدويلة يهوذا بأرض فلسطين، والتى قد غزاها ملك مصر " شيشنق " ، والمنسوب لإبراهيم نبى الله عليه السلام ، يعد ذكرا لأنبياء الله فى الآثار المصرية ؟!! 

ليس ذلك فحسب ، ففى نفس هذه القائمة التى سجلها الملك " شيشنق " عن انتصاره على مملكة يهوذا على جدران معبد الكرنك، يعتقد عالم المصريات الانجليزى القدير العلامة كينيث كتشن Kenneth A. Kitchen بأن إحدى المواقع المذكورة ( الموقعان رقمى 105 و 106 )  h(y)dbt dwt يجب أن تتم ترجمتها بـ " مرتفعات داود "، وأنها واحدة من مناطق " النقب " ( المنطقة الصحراوية فى جنوب مملكة يهوذا بفلسطين )، مع العلم بأن " داود " من وجهة النظر التوراتية واليهودية ملكا فقط وليس نبيا، على العكس مما هو معروف فى المصادر الإسلامية التى تجعل من داود نبيا وملكا ومن ثم، ألا يعتبر هذا ذكرا آخر لأحد أنبياء الله فى المصادر المصرية وفقا لما تم الكشف عنه فى الآثار المصرية ؟!! 

المسكــوت عنه حول ذكـــر أنبيـــاء الله فى الآثـــار المصريـــة
منظر الآسيويين من معبد الكرنك

الصورتان المرفقتان بهذا المقال تشيرا إلى الدليل الدامغ لما ذكرت، أى ذكر مناطق جغرافية بعينها فى أرض فلسطين ، نسبها علماء المصريات وعلماء علم الآثار التوراتى Biblical Archaeology إلى أنبياء الله " إبراهيم " و "داود " ( عليهما السلام )، وقد سجلت على البوابة البوبسطية الخاصة بالملك شيشنق الأول بمعبد الكرنك ضمن قوائم المواقع الجغرافية والمدن التى تم الاستيلاء عليها فى أرض فلسطين اثناء حملته الحربية الشهيرة فى فلسطين ضد مملكة يهوذا، وهى التى يطلق عليها علماء المصريات مصطلح Topographical Lists مع الوضع فى الاعتبار أن هناك الكثير والكثير جدا مما لم يكشف عنه بعد من الآثار المصرية سواء فى مصر أو خارجها فى أرض فلسطين حول ما يتعلق بهذه المسألة !

وأود أن أحيل كل من يرغب فى الاستزادة والمعرفة حول تلك المسألة إلى مقال عالم المصريات الشهير العلامة جيمس هنرى برستد James Henry Breasted المنشور عام 1904 بعنوان :-  

J.H. Breasted: “The Earliest Occurrence of the Name of Abram”, in: The American Journal of Semitic Languages and Literatures, Volume 21, Number 1 (1904), pp. 22-36. 

وأخيرا .. أتمنى أن يأتى يوما تكون فيه حضارة وتاريخ مصر القديمة مرهونة بالحديث ممن هو جدير وكوفأ بالحديث عنها .. كفانا عبثا وجدلا زائفا .. رفعت الأقلام وجفت الصحف !! 

نقلا عن الدكتور محمد رأفت عباس
عبدالرحمن توفيق
عبدالرحمن توفيق
عبدالرحمن توفيق، باحث فى الديانة المصرية القديمة ونصوص العالم الأخر ، مرشد سياحى وعاشق لتاريخ وحضارة مصر القديمة ، أتمنى من الله سبحانه وتعالى أن ما نُقدمه ينال رضاء حضراتكم
تعليقات